فصل: ما يتحقّق به الإحصار

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إحصار

التّعريف

1 - من معاني الإحصار في اللّغة المنع من بلوغ المناسك بمرض أو نحوه، وهو المعنى الشّرعيّ أيضاً على خلاف عند الفقهاء فيما يتحقّق به الإحصار‏.‏

2 - واستعمل الفقهاء مادّة ‏(‏حصر‏)‏ بالمعنى اللّغويّ في كتبهم استعمالاً كثيراً‏.‏ ومن أمثلة ذلك‏:‏ قول صاحب تنوير الأبصار وشارحه في الدّرّ المختار‏:‏ «والمحصور فاقد الماء والتّراب الطّهورين، بأن حبس في مكان نجس، ولا يمكنه إخراج مطهّر، وكذا العاجز عنهما لمرض يؤخّر الصّلاة عند أبي حنيفة، وقالا يتشبّه بالمصلّين وجوباً، فيركع ويسجد إن وجد مكاناً يابساً، وإلاّ يومئ قائماً ثمّ يعيد»‏.‏ ومنه أيضاً قول صاحب تنوير الأبصار‏:‏ «وكذا يجوز له أن يستخلف إذا حصر عن قراءة قدر المفروض»‏.‏ وقال أبو إسحاق الشّيرازيّ‏:‏ «ويجوز أن يصلّي بتيمّم واحد ما شاء من النّوافل؛ لأنّها غير محصورة، فخفّ أمرها»‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏صلاة‏)‏‏.‏ إلاّ أنّهم غلّبوا استعمال هذه المادّة ‏(‏حصر‏)‏ ومشتقّاتها في باب الحجّ والعمرة للدّلالة على منع المحرم من أركان النّسك، وذلك اتّباعاً للقرآن الكريم، وتوافقت على ذلك عباراتهم حتّى أصبح ‏(‏الإحصار‏)‏ اصطلاحاً فقهيّاً معروفاً ومشهوراً‏.‏

2 - ويعرّف الحنفيّة الإحصار بأنّه‏:‏ هو المنع من الوقوف بعرفة والطّواف جميعهما بعد الإحرام بالحجّ الفرض، والنّفل، وفي العمرة عن الطّواف، وهذا التّعريف لم يعترض عليه‏.‏ ويعرّفه المالكيّة بأنّه المنع من الوقوف والطّواف معاً أو المنع من أحدهما‏.‏ وبمثل مذهب الشّافعيّة هذا التّعريف الّذي أورده الرّمليّ الشّافعيّ في نهاية المحتاج، ونصّه‏:‏ «هو المنع من إتمام أركان الحجّ أو العمرة»‏.‏ وينطبق هذا التّعريف للشّافعيّة على مذهب الحنابلة في الإحصار؛ لأنّهم يقولون بالإحصار عن أيّ من أركان الحجّ أو العمرة، على تفصيل يسير في كيفيّة التّحلّل لمن أحصر عن الوقوف دون الطّواف‏.‏ الأصل التّشريعيّ في موجب الإحصار‏:‏

3 - موجب الإحصار - إجمالاً - التّحلّل بكيفيّة سيأتي تفصيلها‏.‏ والأصل في هذا المبحث حادثة الحديبية المعروفة، وفي ذلك نزل قوله تبارك وتعالى‏:‏ ‏{‏وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏‏.‏ وقال ابن عمر رضي الله عنهما «‏:‏ خرجنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فحال كفّار قريش دون البيت، فنحر النّبيّ صلى الله عليه وسلم هديه وحلق رأسه»‏.‏ أخرجه البخاريّ‏.‏

ما يتحقّق به الإحصار

4 - يتحقّق الإحصار بوجود ركنه، وهو المنع من المضيّ في النّسك، حجّاً كان أو عمرةً، إذا توافرت فيه شروط بعضها متّفق عليه وبعضها مختلف فيه‏.‏ ركن الإحصار‏:‏

5 - اختلف الفقهاء في المنع الّذي يتحقّق به الإحصار هل يشمل المنع بالعدوّ والمنع بالمرض ونحوه من العلل، أم يختصّ بالحصر بالعدوّ‏؟‏ فقال الحنفيّة‏:‏ «الإحصار يتحقّق بالعدوّ، وغيره، كالمرض، وهلاك النّفقة، وموت محرم المرأة، أو زوجها، في الطّريق ‏"‏ ويتحقّق الإحصار بكلّ حابس يحبسه، يعني المحرم، عن المضيّ في موجب الإحرام‏.‏ وهو رواية عن الإمام أحمد‏.‏ وهو قول ابن مسعود، وابن الزّبير، وعلقمة، وسعيد بن المسيّب، وعروة بن الزّبير، ومجاهد، والنّخعيّ، وعطاء، ومقاتل بن حيّان، وسفيان الثّوريّ، وأبي ثور‏.‏ ومذهب المالكيّة‏:‏ أنّ الحصر يتحقّق بالعدوّ، والفتنة، والحبس ظلماً‏.‏ كذلك هو مذهب الشّافعيّة والمشهور عند الحنابلة، مع أسباب أخرى من الحصر بما يقهر الإنسان، ممّا سيأتي ذكره، كمنع الزّوج زوجته عن المتابعة‏.‏ واتّفقت المذاهب الثّلاثة على أنّ من يتعذّر عليه الوصول إلى البيت بحاصر آخر غير العدوّ، كالحصر بالمرض أو بالعرج أو بذهاب نفقة ونحوه، أنّه لا يجوز له التّحلّل بذلك‏.‏ لكن من اشترط التّحلّل إذا حبسه حابس له حكم خاصّ عند الشّافعيّة والحنابلة يأتي بيانه إن شاء اللّه تعالى‏.‏ وهذا القول ينفي تحقّق الإحصار بالمرض ونحوه من علّة وهو قول ابن عبّاس وابن عمر وطاوس والزّهريّ وزيد بن أسلم ومروان بن الحكم‏.‏

6 - استدلّ الحنفيّة ومن معهم بالأدلّة من الكتاب والسّنّة والمعقول‏:‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏‏.‏ ووجه دلالة الآية قول أهل اللّغة إنّ الإحصار ما كان بمرض أو علّة، وقد عبّرت الآية بأحصرتم، فدلّ على تحقّق الإحصار شرعاً بالنّسبة للمرض وبالعدوّ‏.‏ وقال الجصّاص‏:‏ «لمّا ثبت بما قدّمته من قول أهل اللّغة أنّ اسم الإحصار يختصّ بالمرض، وقال اللّه ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ وجب أن يكون اللّفظ مستعملاً فيما هو حقيقة فيه، وهو المرض، ويكون العدوّ داخلاً فيه بالمعنى»‏.‏ وأمّا السّنّة‏:‏ فقد أخرج أصحاب السّنن الأربعة بأسانيد صحيحة، كما قال النّوويّ، عن عكرمة، قال‏:‏ سمعت الحجّاج بن عمرو الأنصاريّ قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كسر أو عرج فقد حلّ، وعليه الحجّ من قابل»‏.‏ قال عكرمة سألت ابن عبّاس وأبا هريرة عن ذلك فقالا‏:‏ صدق‏.‏ وفي رواية عند أبي داود وابن ماجه‏:‏ «من كسر أو عرج أو مرض‏.‏‏.‏‏.‏»‏.‏ وأمّا العقل‏:‏ فهو قياس المرض ونحوه على العدوّ بجامع الحبس عن أركان النّسك في كلّ، وهو قياس جليّ، حتّى جعله بعض الحنفيّة أولويّاً‏.‏

7 - واستدلّ الجمهور بالكتاب والآثار والعقل‏:‏ أمّا الكتاب فآية‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ قال الشّافعيّ‏:‏ «فلم أسمع مخالفاً ممّن حفظت عنه ممّن لقيت من أهل العلم بالتّفسير في أنّها نزلت بالحديبية‏.‏ وذلك إحصار عدوّ، فكان في الحصر إذن اللّه تعالى لصاحبه فيه بما استيسر من الهدي‏.‏ ثمّ بيّن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنّ الّذي يحلّ منه المحرم الإحصار بالعدوّ، فرأيت أنّ الآية بأمر اللّه تعالى بإتمام الحجّ والعمرة للّه عامّة على كلّ حاجّ ومعتمر، إلاّ من استثنى اللّه، ثمّ سنّ فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم من الحصر بالعدوّ‏.‏ وكان المريض عندي ممّن عليه عموم الآية»‏.‏ يعني ‏{‏وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه‏}‏‏.‏ وأمّا الآثار‏:‏ فقد ثبت من طرق عن ابن عبّاس أنّه قال‏:‏ لا حصر إلاّ حصر العدوّ، فأمّا من أصابه مرض، أو وجع، أو ضلال، فليس عليه شيء، إنّما قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا أمنتم‏}‏ وروي عن ابن عمرو والزّهريّ وطاوس وزيد بن أسلم نحو ذلك‏.‏ وروى الشّافعيّ في الأمّ عن مالك - وهو عنده في الموطّأ - عن يحيى بن سعيد عن سليمان بن يسار أنّ عبد اللّه بن عمر، ومروان بن الحكم، وابن الزّبير أفتوا ابن حزابة المخزوميّ، وأنّه صرع ببعض طريق مكّة وهو محرم، أن يتداوى بما لا بدّ له منه، ويفتدي، فإذا صحّ اعتمر فحلّ من إحرامه، وكان عليه أن يحجّ عاماً قابلاً ويهدي‏.‏ وهذا إسناد صحيح‏.‏ وأمّا الدّليل من المعقول‏:‏ فقال فيه الشّيرازيّ‏:‏ «إن أحرم وأحصره المرض لم يجز له أن يتحلّل؛ لأنّه لا يتخلّص بالتّحلّل من الأذى الّذي هو فيه، فهو كمن ضلّ الطّريق»‏.‏

شروط تحقّق الإحصار

8 - لم ينصّ الفقهاء صراحةً على شروط تحقّق الإحصار أنّها كذا وكذا، ولكن يمكن استخلاصها، وهي‏:‏ الشّرط الأوّل‏:‏ سبق الإحرام بالنّسك، بحجّ أو عمرة، أو بهما معاً؛ لأنّه إذا عرض ما يمنع من أداء النّسك، ولم يكن أحرم، لا يلزمه شيء‏.‏ ويتحقّق الإحصار عن الإحرام الفاسد كالصّحيح، ويستتبع أحكامه أيضاً‏.‏ الشّرط الثّاني‏:‏ ألاّ يكون قد وقف بعرفة قبل حدوث المانع من المتابعة، إذا كان محرماً بالحجّ‏.‏ وهذا عند الحنفيّة والمالكيّة، أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فيتحقّق الإحصار عن الطّواف بالبيت، كما سيتّضح في أنواع الإحصار‏.‏ أمّا في العمرة فالإحصار يتحقّق بمنعه عن أكثر الطّواف بالإجماع‏.‏ الشّرط الثّالث‏:‏ أن ييأس من زوال المانع، بأن يتيقّن أو يغلب على ظنّه عدم زوال المانع قبل فوات الحجّ، ‏"‏ بحيث لم يبق بينه وبين ليلة النّحر زمان يمكنه فيه السّير لو زال العذر»‏.‏ وهذا نصّ عليه المالكيّة والشّافعيّة، وقدّر الرّمليّ الشّافعيّ المدّة في العمرة إلى ثلاثة أيّام‏.‏ فإذا وقع مانع يتوقّع زواله عن قريب فليس بإحصار‏.‏ ويشير إلى أصل هذا الشّرط تعليل الحنفيّة إباحة التّحلّل بالإحصار بأنّه معلّل بمشقّة امتداد الإحرام‏.‏ الشّرط الرّابع‏:‏ نصّ عليه المالكيّة وتفرّدوا به، وهو ألاّ يعلم حين إحرامه بالمانع من إتمام الحجّ أو العمرة‏.‏ فإن علم فليس له التّحلّل، ويبقى على إحرامه حتّى يحجّ في العام القابل، إلاّ أن يظنّ أنّه لا يمنعه فمنعه، فله أن يتحلّل حينئذ، كما وقع للنّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أنّه أحرم بالعمرة عام الحديبية عالماً بالعدوّ، ظانّاً أنّه لا يمنعه، فمنعه العدوّ، فلمّا منعه تحلّل»‏.‏

أنواع الإحصار

بحسب الرّكن المحصر عنه يتنوّع الإحصار بحسب الرّكن الّذي أحصر عنه المحرم ثلاثة أنواع‏:‏

الأوّل‏:‏ الإحصار عن الوقوف بعرفة وعن طواف الإفاضة‏:‏

9 - هذا الإحصار يتحقّق به الإحصار الشّرعيّ، بما يتربّب عليه من أحكام ستأتي ‏(‏ف 26‏)‏ وذلك باتّفاق الأئمّة، مع اختلافهم في بعض أسباب الإحصار‏.‏

الثّاني‏:‏ الإحصار عن الوقوف بعرفة دون الطّواف‏:‏

10 - من أحصر عن الوقوف بعرفة، دون الطّواف بالبيت، فليس بمحصر عند الحنفيّة، وهو رواية عن أحمد‏.‏ ووجه ذلك عندهم أنّه يستطيع أن يتحلّل بمناسك العمرة، فيجب عليه أن يؤدّي مناسك العمرة بالإحرام السّابق نفسه‏.‏ ويتحلّل بتلك العمرة‏.‏ قال في المسلك المتقسّط‏:‏ «وإن منع عن الوقوف فقط يكون في معنى فائت الحجّ، فيتحلّل بعد فوت الوقوف عن إحرامه بأفعال العمرة، ولا دم عليه، ولا عمرة في القضاء»‏.‏ وهذا يفيد بظاهره أنّه ينتظر حتّى يفوت الوقوف، فيتحلّل بعمرة، أي بأعمال عمرة بإحرامه السّابق، كما صرّح بذلك في المبسوط بقوله‏:‏ «إن لم يكن ممنوعاً من الطّواف يمكنه أن يصبر حتّى يفوته الحجّ، فيتحلّل بالطّواف والسّعي ‏"‏ ومذهب المالكيّة والشّافعيّة أنّه يعتبر من أحصر عن الوقوف فقط محصراً، ويتحلّل بأعمال العمرة‏.‏ لكنّه وإن تشابهت الصّورة عند هؤلاء الأئمّة إلاّ أنّ النّتيجة تختلف فيما بينهم‏.‏ فالحنفيّة يعتبرونه تحلّل فائت حجّ، فلا يوجبون عليه دماً، ويعتبره المالكيّة والشّافعيّة تحلّل إحصار، فعليه دم أمّا الحنابلة فقالوا‏:‏ له أن يفسخ نيّة الحجّ، ويجعله عمرةً، ولا هدي عليه، لإباحة ذلك له من غير إحصار، ففيه أولى، فإن كان طاف وسعى للقدوم ثمّ أحصر أو مرض، حتّى فاته الحجّ، تحلّل بطواف وسعي آخر، لأنّ الأوّل لم يقصد به طواف العمرة ولا سعيها، وليس عليه أن يجدّد إحراماً‏.‏

الثّالث‏:‏ الإحصار عن طواف الرّكن‏:‏

11 - مذهب الحنفيّة والمالكيّة أنّ من وقف بعرفة ثمّ أحصر لا يكون محصراً، لوقوع الأمن عن الفوات، كما قال الحنفيّة‏.‏ ويفعل ما سوى ذلك من أعمال الحجّ، ويظلّ محرماً في حقّ النّساء حتّى يطوف طواف الإفاضة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إن منع المحرم من مكّة دون عرفة وقف وتحلّل، ولا قضاء عليه في الأظهر‏.‏ وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين أمرين فقالوا‏:‏ إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة قبل رمي الجمرة فله التّحلّل‏.‏ وإن أحصر عن طواف الإفاضة بعد رمي الجمرة فليس له أن يتحلّل‏.‏ واستدلّوا على التّحلّل في الصّورة الأولى في الإحصار قبل الرّمي بأنّ ‏"‏ الحصر يفيده التّحلّل من جميعه، فأفاد التّحلّل من بعضه»‏.‏ وهو دليل لمذهب الشّافعيّة أيضاً‏.‏ واستدلّوا لعدم التّحلّل بعد رمي جمرة العقبة إذا أحصر عن البيت‏:‏ بأنّ إحرامه أي بعد الرّمي عندهم إنّما هو عن النّساء، والشّرع إنّما ورد بالتّحلّل الإحرام التّامّ الّذي يحرم جميع محظوراته، فلا يثبت - التّحلّل - بما ليس مثله‏.‏ ومتى زال الحصر أتى بالطّواف، وقد تمّ حجّه‏.‏

أنواع الإحصار من حيث سببه

الإحصار بسبب فيه قهر ‏(‏أو سلطة‏)‏‏:‏

12 - ذكروا من صوره ما يلي‏:‏ الحصر بالعدوّ - الفتنة بين المسلمين - الحبس - منع السّلطان عن المتابعة - السّبع - منع الدّائن مدينه عن المتابعة - منع الزّوج زوجته عن المتابعة - موت المحرم أو الزّوج أو فقدهما - العدّة الطّارئة - منع الوليّ الصّبيّ والسّفيه عن المتابعة - منع السّيّد عبده عن المتابعة‏.‏ وقبل الدّخول في تفصيل البحث لا بدّ من إجمال مهمّ، هو‏:‏ أنّ المالكيّة قصروا الحصر الّذي يبيح التّحلّل للمحصر بثلاثة أسباب، أحصوها بالعدد، وهي‏:‏ الحصر بالعدوّ، والحصر بالفتنة، والحبس ظلماً‏.‏ وبالتّالي فإنّ هذه الأسباب متّفق عليها بين المذاهب‏.‏ وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فاتّفقوا مع الحنفيّة على جميع الصّور الّتي صدر بها الموضوع ما عدا ثلاثة أسباب هي‏:‏ منع السّلطان عن المتابعة، والحصر بالسّبع، والعدّة الطّارئة‏.‏ فهذه الثّلاثة تفرّد بها الحنفيّة‏.‏ هذا مع مراعاة تفصيل في بعض الأسباب الّتي ذكر اتّفاق الحنفيّة مع الشّافعيّة والحنابلة عليها ويأتي تفصيله إن شاء اللّه تعالى‏.‏ أ - الحصر بالعدوّ الكافر‏:‏

13 - وهو أن يتسلّط العدوّ على بقعة تقع في طريق الحجّاج، فيقطع على المحرمين السّبل، ويصدّهم عن المتابعة لأداء مناسكهم‏.‏ وتحقّق الحصر الشّرعيّ بهذه الصّورة محلّ إجماع العلماء، وفيها نزل القرآن الكريم‏.‏ كما سبق‏.‏ وقد قرّر الحنفيّة والمالكيّة أنّه لو أحصر العدوّ طريقاً إلى مكّة أو عرفة، ووجد المحصر طريقاً آخر، ينظر فيه‏:‏ فإن أضرّ به سلوكها لطوله، أو صعوبة طريقه، ضرراً معتبراً، فهو محصر شرعاً‏.‏ وإن لم يتضرّر به فلا يكون محصراً شرعاً‏.‏ أمّا الشّافعيّة فقد ألزموا المحصر بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو فيه مشقّة، ما دامت النّفقة تكفيهم لذلك الطّريق‏.‏ أمّا الحنابلة فعباراتهم مطلقة عن التّقييد بأيّ من هذين الأمرين، ممّا يشير إلى أنّهم يلزمونه بالطّريق الآخر ولو كان أطول أو أشقّ، ولو كانت النّفقة لا تكفيهم‏.‏ وهذا يشير إلى ترجيح وجوب القضاء عند الحنابلة لفوات الحجّ بسبب الطّريق الثّاني، ولعلّه لذلك ذكره ابن قدامة أوّلاً‏.‏ فإذا سلك الطّريق الأطول ففاته الحجّ بطول الطّريق أو خشونته أو غيرهما، فما يحصل الفوات بسببه فقولان مشهوران في المذهبين الشّافعيّ والحنبليّ أصحّهما عند الشّافعيّة‏:‏ لا يلزمه القضاء، بل يتحلّل تحلّل المحصر؛ لأنّه محصر، ولعدم تقصيره‏.‏ والثّاني‏:‏ يلزمه القضاء، كما لو سلكته ابتداءً، ففاته بضلال في الطّريق ونحوه، ولو استوى الطّريقان من كلّ وجه وجب القضاء بلا خلاف؛ لأنّه فوات محض‏.‏

ب - الإحصار بالفتنة‏:‏

14 - بأن تحصل حرب بين المسلمين عياذاً باللّه تعالى، ويحصر المحرم بسبب ذلك، مثل الفتنة الّتي ثارت بحرب الحجّاج وعبد اللّه بن الزّبير سنة 73 هـ‏.‏ وهذا يتحقّق به الإحصار شرعاً أيضاً باتّفاق الأئمّة كالإحصار بالعدوّ سواءً بسواء‏.‏

ج - الحبس‏:‏

15 - بأن يسجن المحرم بعدما تلبّس بالإحرام‏.‏ وقد فرّق المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة بين الحبس بحقّ أو بغير حقّ‏.‏ فإن حبس بغير حقّ، بأن اعتقل ظلماً، أو كان مديناً ثبت إعساره فإنّه يكون محصراً‏.‏ وإن حبس بحقّ عليه يمكنه الخروج منه فلا يجوز له التّحلّل ولا يكون محصراً، ويكون حكمه حكم المرض‏.‏ أمّا الحنفيّة فقد أطلقوا الحبس سبباً للإحصار‏.‏

د - منع الدّائن مدينه عن المتابعة‏:‏

16 - عدّ الشّافعيّة والحنابلة الدّين مانعاً من موانع النّسك في باب الإحصار‏.‏ وأمّا المالكيّة فقد صرّحوا بأنّه إن حبس ظلماً كان محصراً، وإلاّ فلا، فآلت المسألة عندهم إلى الحبس، كالحنفيّة‏.‏

هـ - منع الزّوج زوجته عن المتابعة‏:‏

17 - منع الزّوج زوجته عن المتابعة يتحقّق به إحصارها باتّفاق المذاهب الأربعة ‏(‏الحنفيّة المالكيّة، على الأصحّ عندهم، والشّافعيّة والحنابلة‏)‏، وذلك في حجّ النّفل، أو عمرة النّفل، عند الجميع، وعمرة الإسلام، عند الحنفيّة والمالكيّة لقولهم بعدم فرضيّتها‏.‏ وإن أذن لها الزّوج ابتداءً بحجّ النّفل أو عمرة النّفل ولها محرم فإنّه ليس له منعها بعد الإحرام؛ لأنّه تغرير، ولا تصير محصرةً بمنعه‏.‏ وحجّة الإسلام، أو الحجّ الواجب، كالنّذر، إذا أحرمت الزّوجة بهما بغير إذن الزّوج، ولها محرم، فلا تكون محصرةً عند الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، لأنّهم لا يشترطون إذن الزّوج لوجوب الحجّ عليها، وليس له أن يمنعها من حجّ الفرض، ولا يجوز له أن يحلّلها بمحظور من محظورات الإحرام، ولو تحلّلت هي لم يصحّ تحلّلها‏.‏ وأمّا الشّافعيّة فيقولون باشتراط إذن الزّوج لفرضيّة الحجّ، فإذا لم يأذن لها قبل إحرامها، وأحرمت، كان له منعها، فصارت كالصّورة الأولى على الأصحّ عندهم‏.‏ وإن أحرمت بحجّة الفرض وكان لها زوج وليس معها محرم، فمنعها الزّوج، فهي محصرة في ظاهر الرّواية عند الحنفيّة، وكذا عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وأمّا عند المالكيّة فلا تكون محصرةً إذا سافرت مع الرّفقة المأمونة، وكانت هي مأمونةً أيضاً، لأنّهم يكتفون بهذا لسفر المرأة في الحجّ الفرض، ولا يشترطون إذن الزّوج للسّفر في الحجّ الفرض‏.‏

و - منع الأب ابنه عن المتابعة‏:‏

18 - مذهب المالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ للأبوين أو أحدهما منع ابنه عن حجّ التّطوّع لا الفرض‏.‏ وفي رواية عند المالكيّة والفرض أيضاً، لكن لا يصير عند المالكيّة والحنابلة محصراً بمنعهما، لما عرف من حصر المالكيّة أسباب الإحصار بما لا يدخل هذا فيه‏.‏ ومذهب الحنفيّة‏:‏ يكره الخروج إلى الحجّ إذا كره أحد أبويه وكان الوالد محتاجاً إلى خدمة الولد، وإن كان مستغنياً عن خدمته فلا بأس‏.‏ وذكر في السّير الكبير إذا كان لا يخاف عليه الضّيعة فلا بأس بالخروج‏.‏ وحجّ الفرض أولى من طاعة الوالدين، وطاعتهما أولى من حجّ النّفل‏.‏

ز - العدّة الطّارئة‏:‏

19 - والمراد طروء عدّة الطّلاق بعد الإحرام‏:‏ فإذا أهلّت المرأة بحجّة الإسلام أو حجّة نذر أو نفل، فطلّقها زوجها، فوجبت عليها العدّة، صارت محصرةً، وإن كان لها محرم، عند الحنفيّة دون أن تتقيّد بمسافة السّفر‏.‏ وأمّا المالكيّة فأجروا على عدّة الطّلاق حكم وفاة الزّوج‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لو أحرمت بحجّ أو قران بإذنه أو بغيره، ثمّ طلّقها أو مات، وخافت فوته لضيق الوقت، خرجت وجوباً وهي معتدّة؛ لتقدّم الإحرام‏.‏ وإن أمنت الفوات لسعة الوقت جاز لها الخروج لذلك، لما في تعيّن التّأخير من مشقّة مصابرة الإحرام‏.‏ وأمّا الحنابلة ففرّقوا بين علّة الطّلاق المبتوت والرّجعيّ، فلها أن تخرج إليه - يعني الحجّ - في عدّة الطّلاق المبتوت، وأمّا عدّة الرّجعيّة فالمرأة في الإحصار كالزّوجة‏.‏

المنع بعلّة تمنع المتابعة

20 - ومن صوره‏:‏ الكسر أو العرج - المرض - هلاك النّفقة - هلاك الرّاحلة - العجز عن المشي - الضّلالة عن الطّريق‏.‏ وتحقّق الإحصار بسبب من هذه الأسباب هو مذهب الحنفيّة‏.‏ أمّا الجمهور فيقولون إنّها لا تجعل صاحبها محصراً شرعاً، فإذا حبس بشيء منها لا يتحلّل حتّى يبلغ البيت، فإن أدرك الحجّ فيها، وإلاّ تحلّل بأعمال العمرة، ويكون حكمه حكم ‏(‏الفوات‏)‏‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏فوات‏)‏ الكسر أو العرج‏:‏

21 - والمراد بالعرج المانع من الذّهاب والأصل في هذا السّبب ما سبق في الحديث‏:‏ «من كسر أو عرج فقد حلّ»‏.‏ المرض‏:‏

22 - والمعتبر هنا المرض الّذي لا يزيد بالذّهاب، بناءً على غلبة الظّنّ، أو بإخبار طبيب حاذق متديّن‏.‏ والأصل في الإحصار بالمرض من السّنّة الحديث الّذي سبق فقد ورد في بعض رواياته‏:‏ «أو مرض»‏.‏ هلاك النّفقة أو الرّاحلة‏:‏

23 - إن سرقت نفقة المحرم في الطّريق بعد أن أحرم، أو ضاعت، أو نهبت، أو نفدت، إن قدر على المشي فليس بمحصر، وإن لم يقدر على المشي فهو محصر، على ما في التّجنيس‏.‏ العجز عن المشي‏:‏

24 - إن أحرم وهو عاجز عن المشي ابتداءً من أوّل إحرامه، وله قدرة على النّفقة دون الرّاحلة، فهو محصر حينئذ‏.‏ والضّلالة عن الطّريق‏:‏

25 - أي طريق مكّة أو عرفة‏.‏ فمن ضلّ الطّريق فهو محصر‏.‏

أحكام الإحصار

تندرج أحكام الإحصار في أمرين‏:‏ التّحلّل، وما يجب على المحصر بعد التّحلّل‏.‏

التّحلّل

تعريف التّحلّل‏:‏

26 - التّحلّل لغةً‏:‏ أن يفعل الإنسان ما يخرج به من الحرمة‏.‏ واصطلاحاً‏:‏ هو فسخ الإحرام، والخروج منه بالطّريق الموضوع له شرعاً‏.‏

جواز التّحلّل للمحصر‏:‏

27 - إذا تحقّق للمحرم وصف الإحصار فإنّه يجوز له التّحلّل‏.‏ وهذا الحكم متّفق عليه بين العلماء، كلّ حسب الأسباب الّتي يعتبرها موجبةً لتحقّق الإحصار الشّرعيّ‏.‏ والأصل في الإحرام وجوب المضيّ على المحرم في النّسك الّذي أحرم به، وألاّ يخرج من إحرامه إلاّ بتمام موجب هذا الإحرام، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأتمّوا الحجّ والعمرة للّه‏}‏‏.‏ لكن جاز التّحلّل للمحصر قبل إتمام موجب إحرامه استثناءً من هذا الأصل، لما دلّ عليه الدّليل الشّرعيّ‏.‏ والدّليل على جواز التّحلّل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏‏.‏ وجه الاستدلال بالآية‏:‏ أنّ الكلام على تقدير مضمر، ومعناه واللّه أعلم، فإن أحصرتم عن إتمام الحجّ أو العمرة، وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما تيسّر من الهدي‏.‏ والدّليل على هذا التّقدير أنّ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي، ألا ترى أنّ له أن لا يتحلّل ويبقى محرماً كما كان، إلى أن يزول المانع، فيمضي في موجب الإحرام‏.‏ ومن السّنّة‏:‏ «فعله صلى الله عليه وسلم فقد تحلّل وأمر أصحابه بالتّحلّل عام الحديبية حين صدّهم المشركون عن الاعتمار بالبيت العتيق»، كما وردت الأحاديث الصّحيحة السّابقة‏.‏

المفاضلة بين التّحلّل ومصابرة الإحرام

28 - أطلق الحنفيّة الحكم على المحصر أنّه ‏"‏ جاز له التّحلّل ‏"‏ وأنّه رخصة في حقّه، حتّى لا يمتدّ إحصاره، فيشقّ عليه، وأنّ له أن يبقى محرماً‏.‏ يرجع إلى أهله بغير تحلّل ويعتبر محرماً حتّى يزول الخوف‏.‏ وقال المالكيّة إن منعه بعض ما ذكر من أسباب الإحصار الثّلاثة المعتبرة عندهم، عند إتمام حجّ، بأن أحصر عن الوقوف والبيت معاً، أو عن إكمال عمرة، بأن أحصر عن البيت أو السّعي، فله التّحلّل بالنّيّة، ممّا هو محرم به، في أيّ محلّ كان، قارب مكّة أو لا، دخلها أو لا‏.‏ وله البقاء لقابل أيضاً، إلاّ أنّ تحلّله أفضل‏.‏ أمّا من منع عن إتمام نسكه بغير الأسباب الثّلاثة ‏(‏العدوّ والفتنة والحبس‏)‏ كالمرض، فإن قارب مكّة كره له إبقاء إحرامه بالحجّ لقابل، ويتحلّل بفعل عمرة‏.‏ أمّا الشّافعيّة ففرّقوا بين حالي اتّساع الوقت وضيقه‏:‏ فإن كان الوقت واسعاً فالأفضل أن لا يعجّل التّحلّل، فربّما زال المنع فأتمّ الحجّ، ومثله العمرة، وإن كان الوقت ضيّقاً فالأفضل تعجيل التّحلّل؛ لئلاّ يفوت الحجّ‏.‏ وذلك ما لم يغلب على ظنّ المحرم المحصر إدراكه بعد الحصر، أو إدراك العمرة في ثلاثة أيّام فيجب الصّبر كما سبق‏.‏ وأطلق الحنابلة فقالوا ‏"‏ المستحبّ له الإقامة مع إحرامه رجاء زوال الحصر، فمتى زال قبل تحلّله فعليه المضيّ لإتمام نسكه‏.‏ والحاصل أنّ جواز التّحلّل متّفق عليه، إنّما اختلفوا في المفاضلة بينه وبين البقاء على الإحرام، فإن اختار المحصر التّحلّل تحلّل متى شاء، إذا صنع ما يلزمه للتّحلّل، ممّا سيأتي ذكره في موضعه‏.‏ وهذا الحكم سواء فيه المحصر عن الحجّ، أو عن العمرة، أو عنهما معاً، عند عامّة العلماء‏.‏

التّحلّل من الإحرام الفاسد

29 - يجوز للمحرم الّذي فسد إحرامه - إذا أحصر - أن يتحلّل من إحرامه الفاسد، فإذا جامع المحرم بالحجّ جماعاً مفسداً ثمّ أحصر تحلّل، ويلزمه دم للإفساد، ودم للإحصار، ويلزمه القضاء بسبب الإفساد اتّفاقاً هنا؛ لأنّ الخلاف في القضاء هو في الإحصار بعد الإحرام الصّحيح‏.‏ فلو لم يتحلّل حتّى فاته الوقوف، ولم يمكنه الطّواف بالكعبة، تحلّل في موضعه تحلّل المحصر، ويلزمه ثلاثة دماء‏:‏ دم للإفساد، ودم للفوات، ودم للإحصار‏.‏ فدم الإفساد بدنة، والآخران شاتان، ويلزمه قضاء واحد‏.‏ لكن عند المالكيّة يكفيه في الصّورة الأولى هدي واحد هو هدي الإفساد‏:‏ بدنة؛ لأنّه لا هدي على المحصر عند المالكيّة‏.‏ وعليه في الصّورة الثّانية هديان عند الحنفيّة والمالكيّة‏:‏ هدي الإفساد وهدي الإحصار عند الحنفيّة؛ لأنّه لا دم عندهم للفوات، وهدي الإفساد‏.‏ وهدي الفوات عند المالكيّة‏.‏

البقاء على الإحرام

30 - إن اختار المحصر البقاء على الإحرام ومصابرته حتّى يزول المانع فله بالنّسبة للحجّ حالان‏:‏ الحالة الأولى‏:‏ أن يتمكّن من إدراك الحجّ بإدراك الوقوف بعرفة، فبها ونعمت‏.‏ الحالة الثّانية‏:‏ أن لا يتمكّن من إدراك الحجّ، بأن يفوته الحجّ لفوات الوقوف بعرفة‏.‏ فاتّفق الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة على أنّه يتحلّل تحلّل فوات الحجّ، بأن يؤدّي أعمال العمرة‏.‏ ثمّ اختلفوا‏:‏ فقال‏:‏ الحنفيّة لا دم عليه لأنّ ذلك هو حكم الفوات وعليه القضاء‏.‏ وأمّا الشّافعيّة والحنابلة فقالوا‏:‏ عليه دم الفوات دون دم الإحصار‏.‏ والأصحّ أنّه لا قضاء عليه عند الشّافعيّة وعليه القضاء عند الحنابلة، كما هي القاعدة عندهم‏:‏ «إنّ من لم يتحلّل حتّى فاته الحجّ لزمه القضاء»‏.‏ وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ لو استمرّ المحصر على إحرامه حتّى دخل وقت الإحرام من العام القابل، وزال المانع فلا يجوز له أن يتحلّل بالعمرة ليسر ما بقي‏.‏ فقد أجاز المالكيّة البقاء على الإحرام بعد الفوات، ولم يلزموه بالتّحلّل بعمرة، وعندهم يجزئه الإحرام السّابق للحجّ في العام القابل‏.‏

31 - وأمّا إذا بقي الإحصار قائماً وفات الحجّ‏:‏ فعند المالكيّة والشّافعيّة له أن يحلّ تحلّل المحصر، ولا قضاء عليه‏.‏ وعليه دم عند الشّافعيّة‏.‏ وفي قول عليه القضاء‏.‏ أمّا الحنابلة فأوجبوا عليه القضاء، فيما يظهر من كلامهم‏.‏ وأمّا الحنفيّة فحكمه عندهم حكم الفوات، ولا أثر للحصر‏.‏

حكمة مشروعيّة التّحلّل

32 - المحصر كما قال الكاسانيّ محتاج إلى التّحلّل؛ لأنّه منع عن المضيّ في موجب الإحرام، على وجه لا يمكنه الدّفع، فلو لم يجز له التّحلّل لبقي محرماً لا يحلّ له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام، وفيه من الضّرر والحرج ما لا يخفى، فمسّت الحاجة إلى التّحلّل والخروج من الإحرام، دفعاً للضّرر والحرج‏.‏ وسواء كان الإحصار عن الحجّ، أو عن العمرة، أو عنهما عند عامّة العلماء‏.‏

ما يتحلّل به المحصر

33 - الإحصار بحسب إطلاق الإحرام الّذي وقع فيه أو تقييده بالشّرط نوعان‏:‏ النّوع الأوّل‏:‏ الإحصار في الإحرام المطلق، وهو الّذي لم يشترط فيه المحرم لنفسه حقّ التّحلّل إذا طرأ له مانع‏.‏ النّوع الثّاني‏:‏ الإحصار في الإحرام الّذي اشترط فيه المحرم التّحلّل‏.‏ التّحلّل بالإحصار في الإحرام المطلق 34 - ينقسم هذا الإحصار إلى قسمين، حسبما يستخلص من الفقه الحنفيّ‏:‏ القسم الأوّل‏:‏ الإحصار بمانع حقيقيّ، أو شرعيّ لحقّ اللّه تعالى، لا دخل لحقّ العبد فيه‏.‏ القسم الثّاني‏:‏ الإحصار بمانع شرعيّ لحقّ العبد لا لحقّ اللّه تعالى‏.‏ وقد وجدت نتيجة التّقسيم من حيث الحكم مطابقةً لغير الحنفيّة إجمالاً، فيما اتّفقوا مع الحنفيّة على كونه إحصاراً‏.‏

كيفيّة تحلّل المحصر

أوّلاً‏:‏ نيّة التّحلّل

35 - إنّ مبدأ نيّة التّحلّل بالمعنى الواسع متّفق عليه كشرط لتحلّل المحصر من إحرامه، ثمّ وقع الخلاف فيما وراء ذلك‏:‏ أمّا الشّافعيّة والحنابلة فقد شرطوا نيّة التّحلّل عند ذبح الهدي، بأن ينوي التّحلّل بذبحه؛ لأنّ الهدي قد يكون للتّحلّل وقد يكون لغيره فوجب أن ينوي ليميّز بينهما ثمّ يحلق؛ ولأنّ من أتى بأفعال النّسك فقد أتى بما عليه فيحلّ منها بإكمالها، فلم يحتج إلى نيّة، بخلاف المحصور، فإنّه يريد الخروج من العبادة قبل إكمالها، فافتقر إلى قصده‏.‏ كذلك تشترط نيّة التّحلّل عند الحلق، بناءً على الأصحّ عند الشّافعيّة أنّ الحلق نسك، وأنّه شرط لحصول التّحلّل، كما سيأتي ‏(‏ف‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ وذلك من الدّليل على شرطيّة النّيّة عند ذبح الهدي‏.‏ وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ نيّة التّحلّل وحدها هي ركن التّحلّل فقط، بالنّسبة لتحلّل المحصر بالعدوّ، أو الفتنة، أو الحبس بغير حقّ‏.‏ هؤلاء يتحلّلون عند المالكيّة بالنّيّة فحسب، ولا يغني عنها غيرها، حتّى لو نحر الهدي وحلق ولم ينو التّحلّل لم يتحلّل‏.‏ وأمّا الحنفيّة فقالوا‏:‏ «إذا أحصر المحرم بحجّة أو عمرة، وكذا إذا كان محرماً بهما، وأراد التّحلّل - بخلاف من أراد الاستمرار على حاله، منتظراً زوال إحصاره - يجب عليه أن يبعث الهدي‏.‏‏.‏‏.‏ إلخ ‏"‏ فقد علّقوا التّحلّل ببعث الهدي وذبحه على إرادة التّحلّل، واحترزوا عمّن أراد الاستمرار على حاله‏.‏ فلو بعث هدياً، وهو مريد الانتظار لا يحلّ بذبح الهدي إلاّ إذا قصد به التّحلّل‏.‏

ثانياً‏:‏ ذبح الهدي

تعريف الهدي

36 - الهدي ما يهدى إلى الحرم من حيوان وغيره‏.‏ لكن المراد هنا وفي أبحاث الحجّ خاصّةً‏:‏ ما يهدى إلى الحرم من الإبل والبقر والغنم والماعز خاصّةً‏.‏ حكم ذبح الهدي لتحلّل المحصر‏:‏

36 م - ذهب جمهور العلماء إلى وجوب ذبح الهدي على المحصر، لكي يتحلّل من إحرامه، وأنّه لو بعث به واشتراه، لا يحلّ ما لم يذبح‏.‏ وهو مذهب الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة وقول أشهب من المالكيّة‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ المحصر يتحلّل بالنّيّة فقط، ولا يجب عليه ذبح الهدي، بل هو سنّة، وليس شرطاً‏.‏ استدلّ الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ على ما سبق‏.‏ واحتجّ الجمهور أيضاً بالسّنّة‏:‏ «بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لم يحلّ يوم الحديبية ولم يحلق رأسه حتّى نحر الهدي»، فدلّ ذلك على أنّ من شرط إحلال المحصر ذبح هدي إن كان عنده‏.‏ وأمّا وجه قول المالكيّة ودليلهم فهو دليل من جهة القياس، وهو كما ذكره أبو الوليد الباجيّ أنّه تحلّل مأذون فيه، عار من التّفريط وإدخال النّقص، فلم يجب به هدي، أصل ذلك إذا أكمل حجّه‏.‏

ما يجزئ من الهدي في الإحصار

37 - يجزئ في الهدي الشّاة عن واحد، وكذا الماعز باتّفاق العلماء، وأمّا البدنة وهي من الإبل والبقر، فتكفي عن سبعة عند الجماهير ومنهم الأئمّة الأربعة‏.‏ وللتّفصيل ‏(‏ر‏:‏ هدي‏)‏‏.‏

ما يجب من الهدي على المحصر

38 - اتّفق الفقهاء على أنّ المحرم بالعمرة مفردةً، أو الحجّ مفرداً، إذا أحصر يلزمه ذبح هدي واحد للتّحلّل من إحرامه‏.‏ أمّا القارن فقد اختلفوا فيما يجب عليه من الهدي للتّحلّل بالإحصار‏:‏ فذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى أنّه يحلّ بدم واحد، حيث أطلقوا وجوب هدي على المحصر دون تفصيل، والمسألة مشهورة‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه لا يحلّ إلاّ بدمين يذبحهما في الحرم‏.‏ ومنشأ الخلاف هو اختلاف الفريقين في حقيقة إحرام القارن‏.‏ ‏(‏انظر مصطلح إحرام‏)‏‏.‏ فالشّافعيّة ومن معهم‏:‏ القارن عندهم محرم بإحرام واحد يجزئ عن الإحرامين‏:‏ إحرام الحجّ وإحرام العمرة، لذلك قالوا‏:‏ يكفيه طواف واحد وسعي واحد للحجّ والعمرة مقرونين، فألزموه إذا أحصر بهدي واحد‏.‏ وأمّا الحنفيّة فالقارن عندهم محرم بإحرامين‏:‏ إحرام الحجّ وإحرام العمرة، لذلك ألزموه بطوافين وسعيين، فألزموه إذا أحصر بهديين‏.‏ وقالوا‏:‏ الأفضل أن يكونا معيّنين مبيّنين، هذا لإحصار الحجّ، وهذا لإحصار العمرة، كما ألزموه في جنايات الإحرام على القران الّتي يلزم فيها المفرد دم ألزموا القارن بدمين، وكذا الصّدقة‏.‏

مكان ذبح هدي الإحصار

39 - ذهب الشّافعيّة والحنابلة في رواية إلى أنّ المحصر يذبح الهدي حيث أحصر، فإن كان في الحرم ذبحه في الحرم، وإن كان في غيره ذبحه في مكانه‏.‏ حتّى لو كان في غير الحرم وأمكنه الوصول إلى الحرم فذبحه في موضعه أجزأه على الأصحّ في المذهبين‏.‏ وذهب الحنفيّة - وهو رواية عن الإمام أحمد - إلى أنّ ذبح هدي الإحصار مؤقّت بالمكان، وهو الحرم، فإذا أراد المحصر أن يتحلّل يجب عليه أن يبعث الهدي إلى الحرم فيذبح بتوكيله نيابةً عنه في الحرم، أو يبعث ثمن الهدي ليشتري به الهدي ويذبح عنه في الحرم‏.‏ ثمّ لا يحلّ ببعث الهدي ولا بوصوله إلى الحرم، حتّى يذبح في الحرم، ولو ذبح في غير الحرم لم يتحلّل من الإحرام، بل هو محرم على حاله‏.‏ ويتواعد مع من يبعث معه الهدي على وقت يذبح فيه ليتحلّل بعده‏.‏ وإذا تبيّن للمحصر أنّ الهدي ذبح في غير الحرم فلا يجزي‏.‏ وفي رواية أخرى عن أحمد أنّه إن قدر على الذّبح في أطراف الحرم ففيه وجهان‏.‏ استدلّ الشّافعيّة والحنابلة بفعل النّبيّ صلى الله عليه وسلم فإنّه نحر هديه في الحديبية حين أحصر، وهي من الحلّ‏.‏ بدليل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والهدي معكوفاً أن يبلغ محلّه‏}‏‏.‏ واستدلّوا كذلك من جهة العقل بما يرجع إلى حكمة تشريع التّحلّل من التّسهيل ورفع الحرج، كما قال في المغني‏:‏ «لأنّ ذلك يفضي إلى تعذّر الحلّ، لتعذّر وصول الهدي إلى الحرم»، أي وإذا كان كذلك دلّ على ضعف هذا الاشتراط‏.‏ واستدلّ الحنفيّة على توقيت ذبح الهدي بالحرم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏‏.‏ وتوجيه الاستدلال بالآية عندهم من وجهين‏:‏ الأوّل‏:‏ التّعبير ب ‏"‏ الهدي»‏.‏ الثّاني‏:‏ الغاية في قوله ‏{‏حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏ وتفسير قوله ‏"‏ محلّه ‏"‏ بأنّه الحرم‏.‏ واستدلّوا بالقياس على دماء القربات، لأنّ الإحصار دم قربة، والإراقة لم تعرف قربةً إلاّ في زمان، أو مكان، فلا يقع قربةً دونه‏.‏ أي دون توقيت بزمان ولا مكان، والزّمان غير مطلوب، فتعيّن التّوقيت بالمكان‏.‏

زمان ذبح هدي الإحصار

40 - ذهب أبو حنيفة والشّافعيّ وأحمد - على المعتمد في مذهبه - إلى أنّ زمان ذبح الهدي هو مطلق الوقت، لا يتوقّت بيوم النّحر، بل أيّ وقت شاء المحصر ذبح هديه، سواء كان الإحصار عن الحجّ أو عن العمرة‏.‏ وقال أبو يوسف ومحمّد - وهو رواية عن الإمام أحمد - لا يجوز الذّبح للمحصر بالحجّ إلاّ في أيّام النّحر الثّلاثة، ويجوز للمحصر بالعمرة متى شاء‏.‏ استدلّ الجمهور بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏‏.‏ فقد ذكر الهدي في الآية مطلقاً عن التّوقيت بزمان، وتقييده بالزّمان نسخ أو تخصيص لنصّ الكتاب القطعيّ فلا يجوز إلاّ بدليل قاطع ولا دليل‏.‏ واستدلّ أبو يوسف ومحمّد بأنّ هذا دم يتحلّل به من إحرام الحجّ، فيختصّ بيوم النّحر في الحجّ‏.‏ وربّما يعتبرانه بدم التّمتّع والقران فيقيسانه عليه، حيث إنّه يجب أن يذبح في أيّام النّحر‏.‏ ويتفرّع على هذا الخلاف أنّ المحصر يستطيع على مذهب الجمهور أن يتحلّل متى تحقّق إحصاره بذبح الهدي، دون مشقّة الانتظار‏.‏ أمّا على قول الصّاحبين‏:‏ فلا يحلّ إلى يوم النّحر؛ لأنّ التّحلّل متوقّف على ذبح الهدي، ولا يذبح الهدي عندهما إلاّ أيّام النّحر‏.‏

العجز عن الهدي

41 - مذهب الشّافعيّة والحنابلة وهو مرويّ عن أبي يوسف من عجز عن الهدي فله بدل يحلّ محلّ الهدي، وفي تعيين هذا البدل ثلاثة أقوال عند الشّافعيّة‏.‏ القول الأوّل وهو الأظهر‏:‏ أنّ بدل الهدي طعام تقوّم به الشّاة ويتصدّق به، فإن عجز عن قيمة الطّعام صام عن كلّ مدّ يوماً، وهو قول أبي يوسف، لكنّه قال‏:‏ يصوم لكلّ نصف صاع يوماً‏.‏ ثمّ إذا انتقل إلى الصّيام فله التّحلّل في الحال في الأظهر عند الشّافعيّة بالحلق والنّيّة عنده؛ لأنّ الصّوم يطول انتظاره، فتعظم المشقّة في الصّبر على الإحرام إلى فراغه‏.‏ القول الثّاني‏:‏ بدل الهدي الطّعام فقط، وفيه وجهان‏:‏ الأوّل أن يقوّم كما سبق‏.‏ الثّاني أنّه ثلاث آصع لستّة مساكين، مثل كفّارة جناية الحلق‏.‏ القول الثّالث للشّافعيّة وهو مذهب الحنابلة أنّ بدل الدّم الصّوم فقط‏.‏ وهو عشرة أيّام كصوم التّمتّع‏.‏ وقال أبو حنيفة ومحمّد، وهو قول عند الشّافعيّة وهو المعتمد في المذهب الحنفيّ لا بدل للهدي‏.‏ فإن عجز المنحصر عن الهدي بأن لم يجده، أو لم يجد ثمنه، أو لم يجد من يبعث معه الهدي إلى الحرم بقي محرماً أبداً، لا يحلّ بالصّوم، ولا بالصّدقة، وليسا ببدل عن هدي المحصر‏.‏ وأمّا المالكيّة فلا يجب الهدي من أصله على المحصر عندهم، فلا بحث في بدله عندهم‏.‏ استدلّ الشّافعيّة والحنابلة القائلون بمشروعيّة البدل لمن عجز عن الهدي بالقياس، ووجهه ‏"‏ أنّه دم يتعلّق وجوبه بإحرام، فكان له بدل، كدم التّمتّع»‏.‏ وقاسوه أيضاً على غيره من الدّماء الواجبة، فإنّ لها بدلاً عند العجز عنها ‏(‏ر‏:‏ إحرام‏)‏‏.‏ واستدلّ الحنفيّة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏‏.‏ وجه دلالة الآية كما قال في البدائع‏:‏ «نهى اللّه عن حلق الرّأس ممدوداً إلى غاية ذبح الهدي، والحكم المدوّد إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية، فيقتضي أن لا يتحلّل ما لم يذبح الهدي، سواء صام، أو أطعم، أو لا»‏.‏ وبتوجيه آخر‏:‏ أنّه تعالى ‏"‏ ذكر الهدي، ولم يذكر له بدلاً، ولو كان له بدل لذكره، كما ذكره في جزاء الصّيد»‏.‏ واستدلّوا بالعقل وذلك ‏"‏ لأنّ التّحلّل بالدّم قبل إتمام موجب الإحرام عرف بالنّصّ، بخلاف القياس، فلا يجوز إقامة غيره مقامه بالرّأي»‏.‏

ثالثاً‏:‏ الحلق أو التّقصير

42 - مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف في رواية عنه - ومحمّد ومالك وهو قول عند الحنابلة الحلق ليس بشرط لتحلّل المحصر من الإحرام‏.‏ ويحلّ المحصر عند الحنفيّة بالذّبح بدون الحلق، وإن حلق فحسن، وصرّح المالكيّة أنّ الحلق سنّة‏.‏ وقال أبو يوسف في رواية ثانية‏:‏ إنّه واجب، ولو تركه لا شيء عليه‏.‏ أي أنّه سنّة، وفي رواية ثالثة عن أبي يوسف أنّه قال في الحلق للمحصر‏:‏ «هو واجب لا يسعه تركه ‏"‏ وهو قوله آخراً، وأخذ به الطّحاويّ‏.‏ والأظهر عند الشّافعيّة وهو قول عند الحنابلة أنّ الحلق أو التّقصير شرط للتّحلّل، وذلك بناءً على القول بأنّ الحلق نسك من مناسك الحجّ والعمرة، كما هو المشهور الرّاجح في المذهبين، ولا بدّ من نيّة التّحلّل بالحلق أو التّقصير لما ذكر في النّيّة عند الذّبح‏.‏ استدلّ أبو حنيفة ومن معه بالقران وهو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي‏}‏ ووجه دلالة الآية‏:‏ أنّ المعنى‏:‏ «إن أحصرتم وأردتم أن تحلّوا فاذبحوا ما استيسر من الهدي‏.‏ جعل ذبح الهدي في حقّ المحصر إذا أراد الحلّ كلّ موجب الإحصار، فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب، وهذا خلاف النّصّ»‏.‏ واستدلّ الشّافعيّة والحنابلة وأبو يوسف‏:‏ «بفعله صلى الله عليه وسلم عام الحديبية فإنّه حلق، وأمر أصحابه أن يحلقوا، ولمّا تباطئوا عظم عليه صلى الله عليه وسلم حتّى بادر فحلق بنفسه، فأقبل النّاس فحلقوا وقصّروا، فدعا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم اللّهمّ اغفر للمحلّقين قالوا‏:‏ والمقصّرين‏؟‏، فقال والمقصّرين في الثّالثة أو الرّابعة»‏.‏ ولولا أنّ الحلق نسك ما دعا لهم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ وإذا كان نسكاً وجب فعله كما يجب عند القضاء لغير المحصر‏.‏ واستدلّ لهم أيضاً بالآية ‏{‏ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه‏}‏‏.‏ ووجه الاستدلال بها أنّ التّعبير بالغاية يقتضي ‏"‏ أن يكون حكم الغاية بضدّ ما قبلها، فيكون تقديره ولا تحلقوا رءوسكم حتّى يبلغ الهدي محلّه فإذا بلغ فاحلقوا‏.‏ وذلك يقتضي وجوب الحلق»‏.‏

تحلّل المحصر لحقّ العبد

43 - المحصر لحقّ العبد - على التّفصيل والخلاف السّابق - يكون تحليله على النّحو الآتي‏:‏ عند الحنفيّة بأن يأتي من له الحقّ في الإحصار عملاً من محظورات الإحرام ناوياً التّحليل كقصّ شعر أو تقليم ظفر أو نحوهما، ولا يكفي القول، وعند المالكيّة على الرّاجح‏:‏ يكون التّحلّل بنيّة المحصر، فإن امتنع عن التّحلّل قام من كان الإحصار لحقّه بتحليله بنيّته أيضاً‏.‏ وعند الشّافعيّة والحنابلة للزّوج تحليل زوجته، وللأب تحليل ابنه، وللسّيّد تحليل عبده في الأحوال السّابقة‏.‏ ومعنى التّحليل عندهم على ما ذكروا في الزّوج والسّيّد‏:‏ أن يأمر الزّوج زوجته بالتّحلّل، فيجب عليها التّحلّل بأمره، ويمتنع عليها التّحلّل قبل أمره‏.‏ وتحلّلها كتحلّل المحصر بالذّبح ثمّ الحلق، بنيّة التّحلّل فيهما‏.‏ ولا يحصل التّحلّل إلاّ بما يحصل به تحلّل المحصر عند الشّافعيّة‏.‏ ويقاس عليه تحليل الأب للابن أيضاً‏.‏ ولو لم تتحلّل الزّوجة بعد أن أمرها زوجها بالتّحلّل، فللزّوج أن يستمتع بها، والإثم عليها‏.‏

إحصار من اشترط في إحرامه التّحلّل إذا حصل له مانع

معنى الاشتراط والخلاف فيه‏:‏

44 - الاشتراط في الإحرام‏:‏ هو أن يقول المحرم عند الإحرام‏:‏ «إنّي أريد الحجّ ‏"‏ مثلاً، أو ‏"‏ العمرة، فإن حبسني حابس فمحلّي حيث حبستني»‏.‏ وقد اختلفت المذاهب في مشروعيّة الاشتراط في الإحرام، فذهب الحنفيّة والمالكيّة إلى أنّ الاشتراط في الإحرام غير مشروع، ولا أثر له في إباحة التّحلّل وذهب الشّافعيّة والحنابلة إلى مشروعيّة الاشتراط في الإحرام، وأنّ له أثراً في التّحلّل‏.‏ وتفصيله في مصطلح‏:‏ ‏(‏إحرام‏)‏‏.‏

آثار الاشتراط‏:‏

45 - أمّا عند الحنفيّة والمالكيّة المانعين لشرعيّة الاشتراط في الإحرام‏.‏ فإنّ الاشتراط في الإحرام لا يفيد المحرم شيئاً، ولا يجيز له أن يتحلّل إذا طرأ له مانع عن المتابعة، من عدوّ، أو مرض، فلا يسقط عنه الهدي الّذي يتحلّل به المحصر عند الحنفيّة إذا أراد التّحلّل، ولا يجزئه عن نيّة التّحلّل الّتي بها يتحلّل عند المالكيّة‏.‏ ومذهب الشّافعيّة أنّ الاشتراط في الإحرام يفيد المحرم المشترط جواز التّحلّل إذا طرأ له مانع ممّا لا يعتبر سبباً للإحصار عند الشّافعيّة كالمرض ونفاد النّفقة، وضلال الطّريق، والأوجه في المرض أن يضبط بما يحصل معه مشقّة لا تحتمل عادةً في إتمام النّسك‏.‏ ثمّ يراعي في كيفيّة التّحلّل ما شرطه عند الإحرام، وفي هذا يقول الرّمليّ الشّافعيّ‏:‏ إن شرطه بلا هدي لم يلزمه هدي، عملاً بشرطه‏.‏ وكذا لو أطلق - أي لم يتعرّض لنفي الهدي ولا لإثباته - لعدم شرطه، ولظاهر خبر ضباعة‏.‏ فالتّحلّل فيهما يكون بالنّيّة فقط‏.‏ وإن شرطه بهدي لزمه، عملاً بشرطه‏.‏ ولو قال‏:‏ إن مرضت فأنا حلال، فمرض صار حلالاً بالمرض من غير نيّة وعليه حملوا خبر أبي داود وغيره بإسناد صحيح‏:‏ «من كسر أو عرج فقد حلّ، وعليه الحجّ من قابل»‏.‏ وإن شرط قلب حجّه عمرةً بالمرض أو نحوه، جاز، كما لو شرط التّحلّل به، بل أولى، ولقول عمر لأبي أميّة سويد بن غفلة‏:‏ حجّ واشترط، وقل‏:‏ اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت، فإن تيسّر، وإلاّ فعمرة رواه البيهقيّ بسند حسن‏.‏ ولقول عائشة لعروة‏:‏ هل تستثني إذا حججت‏؟‏ فقال‏:‏ ماذا أقول‏؟‏ قالت‏:‏ قل‏:‏ اللّهمّ الحجّ أردت وله عمدت، فإن يسّرته فهو الحجّ، وإن حبسني حابس فهو عمرة‏.‏ رواه الشّافعيّ والبيهقيّ بسند صحيح على شرط الشّيخين‏.‏ فله في ذلك - أي إذا شرط قلب حجّه عمرةً - إذا وجد العذر أن يقلب حجّه عمرةً، وتجزئه عن عمرة الإسلام‏.‏ والأوجه أنّه لا يلزمه في هذه الحالة الخروج إلى أدنى الحلّ ولو بيسير، إذ يغتفر في الدّوام ما لا يغتفر في الابتداء‏.‏ ولو شرط أن ينقلب حجّه عمرةً عند العذر، فوجد العذر، انقلب حجّه عمرةً، وأجزأته عن عمرة الإسلام، بخلاف عمرة التّحلّل بالإحصار فإنّها لا تجزئ عن عمرة الإسلام؛ لأنّها في الحقيقة ليست عمرةً، وإنّما هي أعمال عمرة‏.‏ وحكم التّحلّل بالمرض ونحوه حكم التّحلّل بالإحصار‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يفيد الاشتراط عند الإحرام جواز التّحلّل على نحو ما قاله الشّافعيّ، إلاّ أنّ الحنابلة توسّعوا، فقالوا‏:‏ يفيد اشتراط التّحلّل المطلق شيئين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنّه إذا عاقه عائق من عدوّ، أو مرض، أو ذهاب نفقة، ونحوه أنّ له التّحلّل‏.‏ الثّاني‏:‏ أنّه متى حلّ بذلك فلا دم عليه ولا صوم أي بدلاً عن الدّم - بل يحلّ بالحلق عليه التّحلّل‏.‏ وهذا يوافق ما قاله الشّافعيّة، إلاّ أنّ الحنابلة سوّوا في الاشتراط بين الموانع الّتي تعتبر سبباً للإحصار كالعدوّ، وبين الموانع الّتي لا تعتبر سبباً للإحصار عندهم‏.‏ أمّا الشّافعيّة فلم يجروا الاشتراط فيما يعتبر سبباً للإحصار‏.‏ وملحظهم في ذلك أنّ التّحلّل بالإحصار جائز بلا شرط، فشرطه لاغ‏.‏ وإذا كان لاغياً، لا يؤثّر في سقوط الدّم‏.‏

تحلّل من أحصر عن الوقوف بعرفة دون الطّواف

46 - هذا لا يعتبر محصراً عند الحنفيّة والحنابلة، ويعتبر محصراً عند الشّافعيّة والمالكيّة، ويتحلّل عند جميعهم بعمل عمرة، على التّفصيل والاعتبار الخاصّ لهذه العمرة، عند كلّ مذهب، كما سبق‏.‏ هذا وإنّ من أحصر عن الوقوف دون الطّواف إذا تحلّل قبل فوات وقت الوقوف بعرفة أجري عليه حكم المحصر‏.‏ أمّا إن تأخّر في التّحلّل حتّى فات الوقوف أصبح حكمه حكم الفوات لا الحصر، على ما قرّره المالكيّة‏.‏ وهذا ينبغي أن يجري عند الشّافعيّ أيضاً‏.‏ وقد قرّر الحنابلة أن يجري هذا الحكم عندهم إذا لم يفسخ الحجّ إلى عمرة حتّى فاته الحجّ‏.‏

تحلّل من أحصر عن البيت دون الوقوف

47 - من أحصر عن البيت دون الوقوف يعتبر محصراً عند الشّافعيّة والحنابلة، على تفصيل سبق ذكره‏.‏ وهذا يجب عليه أن يقف بعرفة ثمّ يتحلّل‏.‏ ويحصل تحلّله بما يتحلّل به المحصر، وهو الذّبح والحلق بنيّة التّحلّل فيهما‏.‏ أمّا الحنفيّة والمالكيّة فلا يكون محصراً عندهم، وعليه أن يأتي بطواف الإفاضة، ويظلّ محرماً بالنّسبة للنّساء حتّى يفيض‏.‏ وكذا هو عند الحنابلة إذا أحصر عن البيت بعد الرّمي، على ما سبق بيانه‏.‏ وكذا لو لم يتحلّل عند الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ويؤدّي طواف الإفاضة بإحرامه الأوّل؛ لأنّه ما دام لم يتحلّل التّحلّل الأكبر فإحرامه قائم، إذ التّحلّل يكون بالطّواف، ولم يوجد الطّواف، فيكون الإحرام قائماً، ولا يحتاج إلى إحرام جديد‏.‏

تفريع على شروط تحلّل المحصر

أجزية محظورات الإحرام قبل تحلّل المحصر‏:‏

48 - يتفرّع على شروط التّحلّل للمحصر أنّ المحصر إذا لم يتحلّل، ووقع في بعض محظورات الإحرام، أو تحلّل لكن وقع قبل التّحلّل في شيء من محظورات الإحرام فإنّه يجب عليه من الجزاء ما يجب على المحرم غير المحصر، باتّفاق المذاهب الأربعة‏.‏ إلاّ أنّ الحنابلة فيما ذهب إليه أكثرهم وقال المرداويّ‏:‏ إنّه المذهب‏.‏ قالوا‏:‏ من كان محصراً فنوى التّحلّل قبل ذبح الهدي - أو الصّوم عند عدم الهدي - لم يحلّ‏.‏ لفقد شرطه، وهو الذّبح أو الصّوم بالنّيّة‏:‏ أي بنيّة التّحلّل، ولزم دم لكلّ محظور فعله بعد التّحلّل، ودم لتحلّله بالنّيّة‏.‏ فزادوا على الجمهور دماً لتحلّله بالنّيّة، ووجهه عندهم‏:‏ أنّه عدل عن الواجب عليه من هدي أو صوم - أي عند عدم الهدي - فلزمه دم‏.‏

ما يجب على المحصر بعد التّحلّل

قضاء ما أحصر عنه المحرم قضاء النّسك الواجب الّذي أحصر عنه المحرم‏:‏

49 - اتّفق الفقهاء على أنّه يجب على المحصر قضاء النّسك الّذي أحصر عنه إذا كان واجباً، كحجّة الإسلام، والحجّ والعمرة المنذورين عند جميعهم، وكعمرة الإسلام عند الشّافعيّة والحنابلة، ولا يسقط هذا الواجب عنه بسبب الإحصار‏.‏ وهذا ظاهر؛ لأنّ الخطاب بالوجوب لا يسقط عن المكلّف إلاّ بأداء ما وجب عليه‏.‏ لكن الشّافعيّة فصلوا بين الواجب المستقرّ وبين الواجب غير المستقرّ، فقالوا‏:‏ «إن كان واجباً مستقرّاً كالقضاء، والنّذر، وحجّة الإسلام الّتي استقرّ وجوبها قبل هذه السّنة بقي الوجوب في ذمّته كما كان، وإنّما أفاده الإحصار جواز الخروج منها، وإن كان واجباً غير مستقرّ، وهي حجّة الإسلام في السّنة الأولى من سني الإمكان سقطت الاستطاعة فلا حجّ عليه إلاّ أن تجتمع فيه شروط الاستطاعة بعد ذلك‏.‏ فلو تحلّل بالإحصار ثمّ زال الإحصار والوقت واسع وأمكنه الحجّ من سنته استقرّ الوجوب عليه لوجود الاستطاعة لكن له أن يؤخّر الحجّ عن هذه السّنة لأنّ الحجّ على التّراخي»‏.‏ 50 - أمّا من أحصر عن نسك التّطوّع فقد ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه لا يجب عليه القضاء، واستدلّوا بأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حين رجع عن البيت في عام الحديبية لم يأمر أحداً من أصحابه ولا ممّن كان معه أن يقضوا شيئاً ولا أن يعودوا لشيء، ولا حفظ ذلك عنه بوجه من الوجوه، ولا قال في العام المقبل‏:‏ إنّ عمرتي هذه قضاء عن العمرة الّتي حصرت فيها‏.‏ ولم ينقل ذلك عنه، وإنّما سمّيت عمرة القضاء وعمرة القضيّة لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قاضى قريشاً وصالحهم في ذلك العام على الرّجوع عن البيت، وقصده من قابل فسمّيت بذلك عمرة القضيّة‏.‏ وصرّح ابن رشد من المالكيّة بوجوب القضاء على الزّوجة والسّفيه وعزاه إلى ابن القاسم روايةً عن مالك‏.‏ وقال الدّردير‏:‏ يجب القضاء على الزّوجة فقط‏.‏ وعلّله الدّسوقيّ بأنّ الحجر على الزّوجة ضعيف؛ لأنّه لحقّ غيرها، بخلاف الحجر على السّفيه ومن يشبهه لأنّه لحقّ نفسه‏.‏ وذهب الحنفيّة إلى أنّه يجب قضاء النّفل الّذي أحصر عنه المحرم؛ لأنّ اعتمار النّبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه في العام المقبل من عام الحديبية إنّما كان قضاءً لتلك العمرة، ولذلك قيل لها عمرة القضاء‏.‏ وروي ذلك عن الإمام أحمد‏.‏ وهي رواية مقابلة للصّحيح‏.‏

ما يلزم المحصر في القضاء

51 - ذهب الحنفيّة إلى أنّ المحصر عن الحجّ إذا تحلّل وقضى فيما يستقبل يجب عليه حجّ وعمرة، والقارن عليه حجّة وعمرتان‏.‏ أمّا المعتمر فيقضي العمرة فقط‏.‏ وعليه نيّة القضاء في ذلك كلّه‏.‏ وذهب الأئمّة الثّلاثة إلى أنّ النّسك الّذي وجب فيه القضاء للتّحلّل بالإحصار يلزم فيه قضاء ما فاته بالإحصار فحسب، إن حجّةً فحجّةً فقط، وإن عمرةً فعمرةً، وهكذا‏.‏ وعليه نيّة القضاء عندهم أيضاً‏.‏ استدلّ الحنفيّة بما روي عن بعض الصّحابة كابن مسعود وابن عبّاس، فإنّهما قالا في المحصر بالحجّ‏:‏ «عليه عمرة وحجّة ‏"‏ وذلك لا يكون إلاّ عن توقيف‏.‏ وتابعهما في ذلك علقمة، والحسن، وإبراهيم، وسالم، والقاسم، ومحمّد بن سيرين‏.‏ واستدلّ الجمهور بحديث‏:‏ «من كسر أو عرج فقد حلّ، وعليه الحجّ من قابل»‏.‏ وجه الاستدلال به أنّه لم يذكر العمرة، ولو كانت واجبةً مع الحجّ لذكرها‏.‏

موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة

52 - موانع المتابعة بعد الوقوف بعرفة لها حالان‏:‏ الحال الأولى‏:‏ أن تمنع من الإفاضة وما بعدها‏.‏ الحال الثّانية‏:‏ أن تمنع ممّا بعد طواف الإفاضة‏.‏ سبق البحث فيمن منع من طواف الإفاضة، هل يكون محصراً أو لا، مع بيان الخلاف في ذلك‏.‏ أمّا على القول بأنّه يتحقّق فيه الإحصار إذا استوفى المانع شروط الإحصار فحكم تحلّله حكم تحلّل المحصر، بكلّ التّفاصيل الّتي سبقت‏.‏ وأمّا على القول بأنّه لا يتحقّق فيه الإحصار فإنّه يظلّ محرماً حتّى يؤدّي طواف الإفاضة، وهو مذهب الحنفيّة والمالكيّة‏.‏ وعليه جزاء ما فاته من واجبات، كما سيأتي‏.‏

موانع المتابعة بعد طواف الإفاضة

53 - اتّفق العلماء على أنّ الحاجّ إذا منع عن المتابعة بعد أداء الوقوف بعرفة وطواف الإفاضة فليس بمحصر، أيّاً كان المانع عدوّاً أو مرضاً أو غيرهما وليس له التّحلّل بهذا الإحصار؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ما بعد الوقوف والطّواف، ويجب عليه فداء ترك ما تركه من أعمال الحجّ‏.‏ فروع‏:‏ ويتفرّع على هذين الأصلين فروع في المذاهب الفقهيّة هي‏.‏ 54 - قال الحنفيّة‏:‏ لو وقف بعرفة، ثمّ عرض له مانع لا يكون محصراً شرعاً كما تقدّم، ويبقى محرماً في حقّ كلّ شيء من محظورات الإحرام إن لم يحلق، وإن حلق فهو محرم في حقّ النّساء لا غير إلى أن يطوف للزّيارة‏.‏ وإن منع عن بقيّة أفعال حجّه بعد وقوفه حتّى مضت أيّام النّحر فعليه أربعة دماء مجتمعة، لترك الوقوف بمزدلفة، والرّمي، وتأخير الطّواف، وتأخير الحلق‏.‏ وعليه دم خامس لو حلق في الحلّ، بناءً على القول بوجوبه في الحرم، وسادس لو كان قارناً أو متمتّعاً لفوات التّرتيب، وعليه أن يطوف للزّيارة ولو إلى آخر عمره، ويطوف للصّدر إن خلّى بمكّة وكان آفاقيّاً‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يحلّ إلاّ بطواف الإفاضة إذا كان قدّم السّعي قبل الوقوف ثمّ حصر بعد ذلك‏.‏ وأمّا إن كان حصر قبل سعيه فلا يحلّ إلاّ بالإفاضة والسّعي‏.‏ وعليه هدي واحد للرّمي ومبيت ليالي منًى ونزول مزدلفة إذا تركها للحصر عنها، كما لو تركها بنسيانها جميعها، فإنّه يكون عليه هدي واحد‏.‏ «وكأنّهم لاحظوا أنّ الموجب واحد، لا سيّما وهو معذور»‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إن كان الإحصار بعد الوقوف، فإن تحلّل فذاك، وإن لم يتحلّل حتّى فاته الرّمي والمبيت بمنًى فهو فيما يرجع إلى وجوب الدّم لفواتهما كغير المحصر‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إن أحصر عن البيت بعد الوقوف بعرفة فله التّحلّل؛ لأنّ الحصر يفيده التّحلّل من جميعه فأفاد التّحلّل من بعضه‏.‏ وإن كان ما حصر عنه ليس من أركان الحجّ كالرّمي، وطواف الوداع، والمبيت بمزدلفة، أو بمنًى في لياليها فليس له تحلّل الإحصار؛ لأنّ صحّة الحجّ لا تقف على ذلك، ويكون عليه دم لتركه ذلك، وحجّه صحيح، كما لو تركه من غير حصر‏.‏

زوال الإحصار

55 - اختلفت المذاهب في الآثار المترتّبة على زوال الإحصار، فعند الحنفيّة تأتي الأحوال الآتية‏.‏ الحالة الأولى‏:‏ أن يزول الإحصار قبل بعث الهدي مع إمكان إدراك الحجّ‏.‏ والحالة الثّانية‏:‏ أن يزول الإحصار بعد بعث الهدي، وهناك متّسع لإدراك الهدي والحجّ جميعاً‏.‏ ففي هاتين الحالتين يجب عليه المضيّ في موجب إحرامه وأداء النّسك الّذي أحرم به‏.‏ الحالة الثّالثة‏:‏ أن لا يقدر على بعث الهدي ولا الحجّ معاً‏.‏ فلا يلزمه المضيّ، ويجوز له التّحلّل، لعدم الفائدة من المضيّ، فتقرّر الإحصار، فيتقرّر حكمه‏.‏ فيصبر حتّى يتحلّل بنحر الهدي في الوقت الّذي واعد عليه‏.‏ وله أن يتوجّه ليتحلّل بأفعال العمرة؛ لأنّه فائت الحجّ‏.‏ فإذا تحلّل يلزمه في القضاء أداء عمرة إضافةً لما فاته، لما سبق‏.‏ الحالة الرّابعة‏:‏ أن يقدر على إدراك الهدي ولا يقدر على إدراك الحجّ‏.‏ فلا يلزمه المضيّ في أداء الحجّ أيضاً؛ لعدم الفائدة في إدراك الهدي بدون إدراك الحجّ، إذ الذّهاب لأجل إدراك الحجّ، فإذا كان لا يدركه فلا فائدة في الذّهاب، فكانت قدرته على إدراك الهدي وعدمها بمنزلة واحدة‏.‏ الحالة الخامسة‏:‏ أن يقدر على إدراك الحجّ ولا يقدر على إدراك الهدي‏:‏ قياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أن يلزمه المضيّ، ولا يجوز له التّحلّل؛ لأنّه إذا قدر على إدراك الحجّ لم يعجز عن المضيّ في الحجّ، فلم يوجد عذر الإحصار، فلا يجوز له التّحلّل، ويلزمه المضيّ‏.‏ ووجه الاستحسان أنّا لو ألزمناه التّوجّه لضاع ماله؛ لأنّ المبعوث على يديه الهدي يذبحه ولا حصل مقصوده‏.‏ والأولى في توجيه الاستحسان أن نقول‏:‏ يجوز له التّحلّل؛ لأنّه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كأنّ الإحصار زال عنه بالذّبح، فيحلّ بالذّبح عنه؛ ولأنّ الهدي قد مضى في سبيله، بدليل أنّه لا يجب الضّمان بالذّبح على من بعث على يده بدنةً، فصار كأنّه قدر على الذّهاب بعد ما ذبح عنه، واللّه أعلم‏.‏ وأمّا المالكيّة فقالوا‏.‏

أ - من أحصر فلمّا قارب أن يحلّ انكشف العدوّ قبل أن يحلق وينحر فله أن يحلّ ويحلق، كما لو كان العدوّ قائماً إذا فاته الحجّ في عامه، وهو أيضاً على بعد من مكّة‏.‏

ب - إن انكشف الحصر وكان في الإمكان إدراك الحجّ في عامه فلا يحلّ‏.‏

ج - وأمّا إن انكشف الحصر وقد ضاق الوقت عن إدراك الحجّ إلاّ أنّه بقرب مكّة لم يحلّ إلاّ بعمل عمرة؛ لأنّه قادر على الطّواف والسّعي من غير كبير مضرّة‏.‏ وأمّا الشّافعيّة فقالوا‏:‏ أ - إن زال الإحصار وكان الوقت واسعاً بحيث يمكنه تجديد الإحرام وإدراك الحجّ، وكان حجّه تطوّعاً، فلا يجب عليه شيء‏.‏

ب - وإن كان الوقت واسعاً وكانت الحجّة قد تقدّم وجوبها بقي وجوبها كما كان‏.‏ والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة، وله التّأخير‏.‏

ج - وإن كانت الحجّة حجّة الإسلام وجبت هذه السّنة بأن استطاع هذه السّنة دون ما قبلها فقد استقرّ الوجوب في ذمّته لتمكّنه، والأولى أن يحرم بها في هذه السّنة، وله التّأخير؛ لأنّ الحجّ عند الشّافعيّة على التّراخي‏.‏ انظر مصطلح ‏(‏حجّ‏)‏‏.‏

د - وإن كان الوقت ضيّقاً بحيث لا يمكنه إدراك الحجّ، أي ولم يستقرّ الوجوب في ذمّته لكونها وجبت هذه السّنة - سقط عنه الوجوب في هذه السّنة، فإن استطاع بعده لزمه، وإلاّ فلا‏.‏ وأمّا الحنابلة فقالوا‏:‏

أ - إن لم يحلّ المحصر حتّى زال الحصر لم يجز له التّحلّل؛ لأنّه زال العذر‏.‏

ب - إن زال العذر بعد الفوات تحلّل بعمرة، وعليه هدي للفوات، لا للحصر؛ لأنّه لم يحلّ بالحصر‏.‏

ج - إن فاته الحجّ مع بقاء الحصر فله التّحلّل به؛ لأنّه إذا حلّ بالحصر قبل الفوات فمعه أولى، وعليه الهدي للحلّ، ويحتمل أن يلزمه هدي آخر للفوات‏.‏

د - إن حلّ بالإحصار ثمّ زال الإحصار وأمكنه الحجّ من عامه لزمه ذلك إن قلنا بوجوب القضاء أو كانت الحجّة واجبةً لأنّ الحجّ على الفور، وإن لم نقل بوجوب القضاء ولم تكن الحجّة واجبةً فلا يجب شيء‏.‏

زوال الإحصار بالعمرة

56 - معلوم أنّ وقت العمرة جميع العمر، فلا يتأتّى فيها كلّ الحالات الّتي ذكرت في زوال الإحصار بالحجّ‏.‏ ويتأتّى فيها عند الحنفيّة الأحوال التّالية‏:‏ الحال الأولى‏:‏ أن يزول الإحصار قبل البعث بالهدي‏.‏ وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة ووجهه ظاهر وقد تقدّم‏.‏ الحال الثّانية‏:‏ أن يتمكّن بعد زوال الإحصار من إدراك الهدي والعمرة، وهذا يلزمه التّوجّه لأداء العمرة أيضاً كما تقدّم‏.‏ الحال الثّالثة‏:‏ أن يتمكّن من إدراك العمرة فقط دون الهدي‏.‏ وهذه حكمها في الاستحسان ألاّ يلزمه التّوجّه، وفي القياس أن يلزمه التّوجّه‏.‏ وأمّا المالكيّة فقالوا‏:‏ أ - إن انكشف العدوّ عن المحصر بالعمرة وكان بعيداً من مكّة وبلغ أن يحلّ فله أن يحلّ‏.‏

ب - وإن انكشف العدوّ وكان قريباً من مكّة ‏"‏ ينبغي ألاّ يتحلّل، لأنّه قادر على فعل العمرة، كما لو انكشف العدوّ في الحجّ والوقت متّسع»‏.‏ أمّا الشّافعيّة والحنابلة فعندهم‏:‏ أ - إن انصرف العدوّ قبل تحلّل المحصر بالعمرة لم يجز له التّحلّل، ووجب عليه أداء العمرة‏.‏

ب - إن انصرف العدوّ بعد التّحلّل وكانت العمرة الّتي تحلّل عنها واجبةً، وجب عليه قضاؤها، لكنّه لا يلزم به في وقت معيّن؛ لأنّ العمرة غير مؤقّتة‏.‏

ج - إن زال الحصر بعد التّحلّل وكانت العمرة تطوّعاً فعلى القول بعدم وجوب قضاء التّطوّع لا شيء عليه‏.‏

تفريع على التّحلّل وزوال الإحصار

أ - ‏(‏فرع‏)‏ في تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره‏:‏

57 - يتفرّع على تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد ثمّ زوال إحصاره‏:‏ أنّه إذا تحلّل المحصر من الإحرام الفاسد، ثمّ زال الإحصار وفي الوقت متّسع، فإنّه يقضي الحجّ الفاسد من سنته، ويلزمه ذلك بناءً على من ذهب إلى أنّ القضاء على الفور‏.‏ وهذه لطيفة‏:‏ أن يتمكّن من قضاء الحجّ الفاسد في سنة الإفساد نفسها، ولا يمكن أن يتحقّق ذلك إلاّ في هذه المسألة‏.‏ وهذا متّفق عليه‏.‏

ب - ‏(‏فرع‏)‏ في الإحصار بعد الإحصار‏:‏

58 - إن بعث المحصر بالهدي إلى الحرم ثمّ زال إحصاره، وحدث إحصار آخر، فإن علم المحصر أنّه يدرك الهدي حيّاً، ونوى به التّحلّل من إحصاره الثّاني بعد تصوّر إدراكه جاز وحلّ به، إن صحّت شروطه، وإن لم ينو لم يجز أصلاً‏.‏ وهذا بناءً على مذهب الحنفيّة بوجوب بعث المحصر هديه إلى الحرم، أمّا عند غيرهم فهو إحصار قبل التّحلّل، يتحلّل منه بما يتحلّل من الإحصار السّابق واللّه تعالى أعلم‏.‏